سورة الأنعام - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ(157)}
قد يحتج المشركون من أن التوراة والإِنجيل لو نزلت عليهم لكانوا أهدى من اليهود والنصارى، وفي هذا القول ما يعني أن أذهانهم مستعدة لتقبل الإيمان، وقد قطع الله عليهم كل عذر فجاء لهم بالقرآن، ويقول الحق: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله وَصَدَفَ عَنْهَا...} [الأنعام: 157].
و(صدف) من الأفعال التي تُستعمل متعدية وتُستعمل لازمة، ومعنى (لازمة) أنها تكتفي بالفاعل ولا تتطلب مفعولاً، فمثلاً إذا قيل لك: جلس فلان. تفهم أن فلاناً قد جلس ويتم لك المعنى ولا تتطلب شيئاً آخر. لكنك إن قيل لك: ضَربَ زيد، فلابد أنك تنتظر من محدثك أن يبين لك من الذي ضُرَب، أي أنك جئت بفعل يطلب شئياً بعد الفاعل ليقع عليه الفعل. وهذا اسمه فعل (متعد) أي يتعدى به الفاعل إلى مفعول به.
و(صدف) فيها الخاصتان. وجاء الحق بهذه الصيغة المحتملة لأن تكون لازمة وأن تكون متعدية ليصيب الأسلوب غرضين؛ الغرض الأول: أن تكون (صدف) بمعنى انصرف وأعرض فكانت لازمة أي ضل في ذاته، والأمر الثاني: أن تكون صدف متعدية فهي تدل على أنه يصرف غيره عن الإيمان، أي يضل غيره، ويقع عليه الوزر؛ لضلال نفسه أولاً ثم عليه وزر من أضل ثانياً، ولذلك جاء سبحانه باللفظ الذي يصلح للاثنتين (صدف عنها) أي انصرف، ضلالاً لنفسه، وصدف غيره أي جعل غيره يصدف ويعرض فأضل غيره، وبذلك يعذبه الله عذابين، فيقول سبحانه: {... سَنَجْزِي الذين يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سواء العذاب بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 157].
فكأن المسألة يرتكبها: الذين صدفوا أنفسهم، وصرفوها عن الإيمان ويصدفون كل من يحاول أن يؤمن. وهؤلاء هم القوم الذين أعرضوا وانصرفوا عن منهج الهدى، أو تغالوا في ذلك فصرفوا غيرهم عن منهج الهدى، ولو أنهم استقرأوا الوجود الذي يعايشونه لوجدوا الموت يختطف كل يوم قوماً على غير طريقة رتيبة، فلا السن يحكم ويحدد وقت وزمن انقضاء الأجل، ولا الأسباب تحكمه، ولا المرض أو العافية تحكمه، فالموت أمر شائع في الوجود، ومعنى ذلك أن على كل إنسان أن يترقب نهايته، فكأنه يتساءل: لماذا إذن يصدفون؟. وماذا ينتظرون من الكون؟. أرأوا خلوداً في الكون لموجود معهم؟.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ...}.


{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ(158)}
فهل ينتظرون من عطاءات الوجود المحيط بهم إلا أن تأتيهم الملائكة التي تقبض الروح؟ والملائكة تأتي هنا مجملة. وفي آيات أخرى يقول: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السلم...} [النحل: 28].
ولن يتأبى أحد على الملائكة؛ لذلك يلقون لهم السلم وتنتهي المسألة.
ويتابع سبحانه: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام: 158].
ووقف العلماء عند هذا القول الكريم لأنهم أرادوا أن يفسروا الإتيان من الرب على ضوء الأتيان منا، والأتيان منا يقتضي انخلاعاً من مكان كان الإنسان فيه إلى مكان يكون فيه، وهذا الأمر لا يصلح مع الله ونقول: أفسرت كل مجيء على ضوء المجيء بالنسبة لك؟ بالله قل لي: ما رأيك في قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ...} [ق: 19].
كيف جاءت سكرة الموت وهي المخلوقة لله؟ إننا لا نعرف كيف يجيء الموت وهو مخلوق؟ فكيف تريدون أن نعرف كيف يجيء الله؟. عليكم أن تفسروا كل شيء بالنسبة لله بما يليق بذات الله في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ولنتأذب ونعط العقول مقدارها من الفهم، ولنجعل كل شيء منسوباً لله بما يناسب ذات الله؛ لأن المجيء يختلف بأقدار الجائين، فمجيء الطفل غير مجيء الشاب، غير مجيء الرجل العجوز، غير مجيء الفارس، فما بالنا بمجيء الله سبحانه؟!! إياك- إذن- أن تفهم المجيء على ضوء مجيء البشر. وأكررها دائماً: عليك أن تأخذ كل شيء بالنسبة له سبحانه لا بقانونك أنت، ولكن بقانون الذات الأعلى، واجعل كل ما يخصه في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، ولذلك قل: له سمْع ليس كسمعنا، وبصر ليس كبصرنا، ويد ليست كايدينا، في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وإياكم أن تسمعوا مناقشة في قوله: {يَأْتِيَ رَبُّكَ}. وقل إن إتيان الله ومجيئه ليس كفعل البشر، بل سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}.
و{بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}، هي العلامات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «بَادِرُوا بالأعمال سِتًّا: طلوعَ الشمس من مغربها، والدُّخَان، ودابَّةَ الأرض، والدَّجَّالَ، وخُوَيْصَةً أحَدِكُمْ وأمْرَ العامّة».
و(خُويْصَةُ أحدكم) تصغير: خاصة، والمراد حادثة الموت التي تخص الإنسان، وصغّرت لاستصغارها في جنب سائر العظائم من بعث وحساب وغيرهما وقيل: هي ما يخص الإِنسان من الشواغل المقلقة من نفسه وماله وما يهتم به.
و(أمر العامّة): أي القيامة؛ لأنها تعم الخلائق، أو الفتنة التي تعمي وتصم، أو الأمر الذي يستبد به العوام ويكون من قبلهم دون الخواص.
{أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} [الأنعام: 158].
لأن الإيمان لا يكون إلا بأمر غيبي؛ فكل أمر مشهدي مدرك بالحواس لا يسمى إيماناً؛ فأنت لا تقول: انا أؤمن بأني أقرأ الآن في كتاب خواطر الشيخ الشعراوي حول آيات القرآن الكريم؛ لأنك بالفعل تقرأ هذه الخواطر الآن. وأنت لا تقول: أنا أؤمن بأن النور يضيء الحجرة؛ لأن هذا أمر مشهدي، وليس أمراً غيبيًّا. والإِيمان يكون دائماً بأمر غيبي، ولكن إذا جاءت الآيات فإننا ننتقل من الإِيمان بالأمر الغيبي إلى الإِيمان بالأمر الحسي، وحينئذ لا ينفع الإِيمان من الكافر، ولا تقبل الطاعة من صدقة أو غيرها من أنواع البر والخير بعد أن تبلغ الروح الحلقوم وتقول: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان. هذا لا ينفع؛ لأن المال لم يعد مَالَك، بل صار مال الورثة، كذلك الذي لم يؤمن وبعد ذلك رأى الآيات الستة التي قال الشارع عنها: إنها ستحدث بين يدي الساعة أو قبل مجيء الساعة. وساعة ترى هذه الآيات لن يُقبل منك أن تقول: آمنت؛ لأن الإِيمان إنما يكون بالأمر الغيبي، وظهور الآيات هو أمر مشهدي فلن يُقبل بعده إعلان الإِيمان. والحق هو القائل: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام: 158].
أي أن الإِيمان يجب أن يكون سابقاً لظهور هذه الآيات، وألا يكون المانع له من العمل القصور، كأن يكون الإِنسان- والعياذ بالله- مجنوناً ولم يفق إلا بعد مجيء العلامة، أو لم يَبْلُغ إلا بعد وجود العلامة فهذا هو من ينفعه الإِيمان.
وقد عرض الحق لنا من هذه الصور ما حدث في التاريخ السابق، فهو القائل: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90].
وماذا كان رد الله عليه؟ لقد قال سبحانه: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ...} [يونس: 91].
إذن: إذا بلغت الروح الحلقوم، وهذه مقدمات الموت فلا ينفع حينئذ إعلانك الإيمان.
ويذيل الحق الآية بقوله: {... انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام: 158].
هم منتظرون الخيبة ونحن منتظرون الفلاح.
ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ...}.


{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(159)}
هذه الآية تشرح الآية التي سبقت خواطرنا عنها، وهي قوله الحق: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
والذين فرقوا دينهم نسوا أن الدين إنما جاء ليجمع لا ليفرق، والدين جاء ليوحد مصدر الأمر والنهي في الأفعال الأساسية فلا يحدث بيننا وبين بعضنا أي خلاف، بل الخلاف يكون في المباحات فقط؛ إن فعلتها فأهلاً وسهلاً، وإن لم تفعلها فأهلاً وسهلاً، ومالم يرد فيه أفعل ولا تفعل؛ فهو مباح.
إذن الذين يفرقون في الدين إنما يناقضون منهج السماء الذي جاء ليجمع الناس على شيء واحد؛ لتتساند حركات الحياة في الناس ولا تتعاند، وإذا كان لك هوى، وهذا له هوى، وذلك له هوى فسوف تتعاند الطاقات، والمطلوب والمفروض أن الطاقات تتساند وتتعاضد.
والشيع هم الجماعة التي تتبع أمراً، هذا الأمر يجمعهم ولو كان ضلالا.
وهناك تشيع لمعنى نافع وخير، وهناك تشيع لعكس ذلك، والتشيع على إطلاقه هو أن تجنمع جماعة على أمر، سواء أكان هذا الأمر خيراً أم شرا. {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ...} [الأنعام: 159].
إذن هم بعيدون عن منهجك يا محمد، ولا يصح أن ينسبوا إلى دينك؛ لأن الإسلام جاء لإثبات القيم للوجود مثل الماء لإثبات حياة الوجود. ونعرف أن الماء لا يأخذ لوناً ولا طعماً ولا رائحة، فإن أخذ لوناً أو طعماً أو رائحة فهو يفقد قيمته كماء صاف. وكذلك الإسلام إن أخذ لوناً، وصار المسلمون طوائف؛ فهذا أمر يضر الدين، وعلينا أن نعلم أن الإسلام لون واحد. {... إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].
إن شاء سبحانه عاجلهم بالهزيمة أو بالعذاب، وإن شاء آجلهم إلى يوم القيامة.
ويقول الحق بعد ذلك: {مَن جَآءَ بالحسنة...}.

46 | 47 | 48 | 49 | 50 | 51 | 52 | 53